jouria
ادارية
| موضوع: الوعي السياسي بين التفكير والتحليل والعمل 29.11.09 23:36 | |
| بسم الله الرحمن الرحيم
الوعي السياسي بين التفكير والتحليل والعمل
بقلم: الدكتور سعيد عابد/
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين وعلى اله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين... أما بعد، أخوة الإسلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أتحدث إليكم اليوم في موضوع يقصد منه تحسين أجواء التفاعل ما بين الحركات الإسلامية والأمة والمخلصين من أبنائها، من خلال عرض بعض المفاهيم التي ترتبط بالوعي السياسي، وعرض نماذج من العمل السياسي التي تسهم في شحن الأمة والحفاظ على دافعيتها نحو التغيير. فالحديث يدور حول بلورة مفاهيم تتعلق بالتفكير والتحليل والعمل السياسي لتكون الأعمال في الأمة لبناء تصاعدي ارتقائي لا هدم فيها ولا إعاقة. وجوهر الحديث يدور حول مباشرة العمل السياسي في الأمة ومنه نبدأ.
فالسياسة، وهي رعاية شؤون الأمة داخليا وخارجيا، ترتبط ممارستها بنواح تعتبر نظرية من جهة، وبنواح تعتبر ميدانية تطبيقية من جهة أخرى، وهذه النواحي مجتمعة هي محل عمل لذهن السياسي في مختلف أحواله. ولا بد أن تنعكس الجوانب النظرية على الجوانب التطبيقية انعكاسا صحيحا يحافظ على توازن يحقق المبدأ من جهة، ومن جهة أخرى يتيح للسياسي المناورة والمحاورة والتمايز وحشد المفاصلة على أساس المبدأ مع وجود اختلافات تفصيلية أحيانا، خصوصا لدى العمل السياسي لحشد الأمة نحو قضيتها المصيرية، أي التفاعل الصحيح والبنّاء مع مختلف أطراف الحدث السياسي. وبحيث يبقى السياسي ضمن دائرة الوعي ويبعد عن التجريد والمنطق. وتهدف هذه المقالة إلى تسليط الضوء على جوانب تتعلق بالعمل الميداني في الأمة من قبل المخلصين من أبنائها على اختلاف مشاربهم الحركية وانتماءاتهم ضمن إطار الإسلام، من أجل أن تتناسق أعمالهم العامة نحو خدمة قضيتها المصيرية رغم وجود اختلافات في التفاصيل.
والوعي السياسي يعرف على أنه النظر للأحداث من زاوية خاصة، بحيث تكون هذه النظرة عالمية المدى غير إقليمية أو محلية، والزاوية الخاصة تنطلق من المبدأ، وبالأخص من عقيدته، فالنظرة العامة التي ينطلق منها السياسي المسلم هي عقيدة "لا اله إلا الله"، وعليه فالوعي السياسي هو وعي مبدئي على أمور واقعية، هي الأحداث. والمسلم الواعي سياسيا يشتغل بالأحداث الواقعية: تحليلا لفهمها، وتفكيرا للحكم عليها من زاويته الخاصة، وعملا منتجا لتسييرها باتجاه غايات الأمة، ولكي تكون رعايتها على أساس الإسلام ومصالحه الحيوية.
ومن هذا المنطلق، لا بد للسياسي وهو يتلبس بالعمل السياسي من التفريق بين التفكير السياسي والتحليل السياسي والعمل السياسي لئلا تختلط لديه هذه الأبعاد وهو منخرط ميدانيا في الأمة حتى يؤتي عمله أكله الصحيح، وحتى يكون الفكر والعمل السياسي لديه منتجا، لا ترفا فكريا، ولا رياضة ذهنية لمتعة التفكير والتحليل، ولا إثباتا لقدرة الذات على الفهم والإبداع. وإنما هي لدى المسلم سعي لنيل رضوان الله فقط، بحيث تذوب الذات لدى ممارسة السياسة في إناء الأمة، وتكون العملية كلها تمثلا لقول الرسول صلّى الله عليه وسلم: "من بات ولم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم".
وقبل تعريف التفاصيل تجدر الإشارة إلى بعض الأمثلة على هذه الأبعاد من أجل أن يتم تصورها في الذهن، من خلال تأمل ما يلي: - مقولة" الديمقراطية نظام حكم": هي فكر سياسي، بينما مقولة "الديمقراطية نظام كفر": هي فكر سياسي إسلامي. - مقولة "الحكم في فرنسا ديمقراطي": هي تحليل سياسي لواقع فرنسا، لا مدحا ولا قدحا. وهذا ما يتفق عليه المسلم والكافر. - القيام بتظاهره للمطالبة بالديمقراطية: هو عمل سياسي، يكون مقبولا لدى من يحمل المبدأ الديمقراطي، بينما العمل حرام لدى المسلم. أما نشر بيان بين الناس يوضح أن الديمقراطية نظام كفر فهو عمل سياسي إسلامي.
فالتفكير السياسي وما ينتج عنه من فكر سياسي هو كأي تفكير وأي فكر، من حيث كونه حكما على واقع، إلا أن هذا الواقع هنا عبارة حدث يرتبط بشؤون الناس ومصالحهم، والحكم عليه هنا يكون بحسب المبدأ الذي يحمله الإنسان، أي أن المفكر السياسي ليس "موضوعيا" أو "حياديا" في الحكم على الحق والباطل والخطأ والصواب في السياسة، وإنما ينطلق من مبدئه في الحكم على شؤون السياسة، فالتفكير السياسي لا بد أن يكون مبدئيا من حيث الحكم، مع أنه في نفس الوقت واقعي من حيث ضرورة التعامل مع وقائع عملية لا أمور خيالية أو تاريخية، فيتم ذلك بحسب المفاهيم المنبثقة عن العقيدة دون أدنى انحراف عن ذلك.
بينما التحليل السياسي يبقى عملا موضوعيا لا يرتبط بالمبدأ الذي يحمله المحلل، لأنه قراءة للواقع، وقراءة الواقع هي عملية تشخيصية تتم من خلال ربط الأحداث ببعضها، والغوص في الغايات المرجوة من القائمين بها ودوافعهم، ومعرفة العلاقات التي تربط أطراف الموضوع وما إلى ذلك من معلومات واقعية. ولذلك فهي تحتمل الحيادية والموضوعية لدى القيام بعملية التحليل. فضمن إطار التحليل السياسي، قد يتفق الصيني والمسلم (مثلا) على أن إحدى غايات أمريكا من ضرب العراق يمكن أن تتمثل في السيطرة على منابع النفط، أما ما يتوجب العمل في هذه الحالة، فإن المسلم ينطلق إلى الجهاد بحسب الحكم الشرعي لدفع العدوان، بينما الصيني قد يتجه إلى الاستنكار والاعتراض لدى الأمم المتحدة مثلا أو عدم إرسال قوات تشارك في الغزو، ومثل هذا الموقف العملي لا يصح من المسلم الملتزم بأحكام مبدئه، وهنا يختلف العمل السياسي (التطبيقي) باختلاف المبدأ والأحكام العملية المنبثقة عنه، حتى وإن حصل اتفاق على تحليل سياسي. فالعمل السياسي لدى المسلم يتعلق برعاية شؤون الأمة على أساس الأحكام الشرعية، ولذلك فارتباطه بالمبدأ وبالفكر السياسي هو ارتباط وثيق، لا يصح أن ينفك عنه، شأنه في ذلك شأن كافة الأفعال التي يقوم بها المسلم وحسب القاعدة الأصولية: "الأصل بالأفعال التقيد بالحكم الشرعي"، وذلك بغض النظر عن طبيعة هذه الأفعال: سياسية كانت أو اجتماعية أو عبادية. وعلى عكس المثل السابق: فإن العمل الذي يتوجب على المسلمين القيام به إزاء الكيان الصهيوني هو العمل على اجتثاثه بغض النظر عن اتفاقهم على تحليل واقع العلاقة بين أمريكا وإسرائيل، من حيث أن أمريكا تسيطر على إسرائيل، أو أن إسرائيل تسيطر على أمريكا من خلال اللوبي الصهيوني، فالتحليل السياسي قد يختلف بين المسلمين إلا أن العمل على أساس الأحكام الشرعية واحد (إلا في الاختلاف الشرعي في استنباط الأحكام الشرعية فيما يحتمل الخلاف، والخلاف في هذه الحالة يبقى ضمن دائرة الإسلام). وعليه فالفكر والعمل السياسي لا بد وأن ينطلقا من المبدأ ويرتبطا به سواء بعقيدته كمنطلق، أو بأحكامه كمعالجات تتمثل بالأعمال السياسية، أما التحليل السياسي فهو عمليه ذهنية تتعلق بفهم الأحداث الواقعية بحيث ترى من خلالها الحقائق كما هي، مع الحذر من تلوينها باللون الذي يهواه السياسي، وعليه أن يحرص على عدم تدخل ميوله في فهم الآراء والأنباء السياسية، بل تدرك الوقائع إدراكا حسيا كما هي لا كما يرغب أن تكون.
وبعد تبيان هذه الفروقات، تبرز مسألة تداخل دور التحليل السياسي ودور العمل السياسي لدى المخلصين من أبنائها لدى انخراطهم الميداني في الأمة. إذ تجدر الإشارة إلى ما يحصل أحيانا من أن يتحول السياسي المخلص العامل في الأمة إلى محلل سياسي مثله مثل العديدين من المحللين والأكاديميين الذين تعج بهم شاشات الفضائيات بتحليلاتهم كعملية ذهنية بحتة بعيدة عن التأثير في الأمة وقيادتها، فيتحول دوره (من حيث يدري أو لا يدري) إلى محلل "متفرج" على الأحداث منتظرا أن تثبت الأحداث التالية صدق تحليله حول الحدث السابق ليشد على عضلاته قائلا: "ألم أقل لكم ذلك؟" ثم يعتبر نفسه قد فاز بجولة مع الأمة. هل حقا يكون قد فاز في هذه الحالة ! أم أنه على الحقيقة قد خسر لأنه عجز عن أن يقود الأمة ويرشدها للوسائل العملية التي تحبط تتابع الأحداث حسب ما استنبط وتوقع في تحليله !
وقبل تناول هذه المسألة لا بد من التأكيد على أن لا يتبادر للذهن أن هذه المقالة تحث على إهمال تعاطي التحليل السياسي نهائيا، أو تدفع إلى التفاعل العاطفي البحت مع الأحداث بما يرضي الأمة، دون وعي على ما يجري في العالم، فإن ذلك عمل السطحيين الذين لا يمكن لهم أن يقودوا أمة. بل إن للتحليل السياسي وفهم العلاقات الدولية بين الدول، وتبيان الموقف الدولي وتغيّره، وكشف الخطط والأساليب التي تستخدمها الدول الكافرة في حربها على الإسلام، وتحليل مراكز الدول بالنسبة للدولة الأولى من تابعة أو مستقلة أو دائرة في الفلك، وما إلى ذلك من معلومات عن الواقع السياسي في العالم إلزامي على المسلمين كونهم قد كلّفوا بحمل الدعوة للعالم مما يحتم عليهم الاتصال به وهم واعين لمشاكله ودوافعه، ويتوجب عليهم أيضا إدراك الموقف الحالي في العالم الإسلامي على ضوء فهم الموقف الدولي العالمي ليتمكنوا من التحرك المنتج نحو إقامة الخلافة لا أن يقعوا في المصائد التي تنصب لهم. ومن أمثلة ما يتوجب كشفه للأمة أن محاربة الإرهاب تعني محاربة الإسلام، وأن الترويج للديمقراطية يعني صرف المسلمين عن العمل لإقامة الدولة الإسلامية. هذه أمور لا يمكن تجاوزها في التفاعل مع الأمة وفي العمل للتغيير. ولكن المسألة المبحوثة هنا في التحليل الذي قد يرتبط بالدافعية في الأمة وفي العلاقات التي تربط المخلصين من أبناءها وفي مسائل الصراع مع المحتلين. وهذه بعض الأسئلة الشارحة للموضوع منها:
هل النجاح والفلاح السياسي هو في الحذق في التحليلات السياسية أم في تحقيق غايات الأمة عمليا في واقع الحياة ؟ هل يتوجب على السياسي أن يصدع بكل ما لديه كل الأوقات حتى يحقق الالتزام التام بمبدئه ؟ أم يجوز له أن يتحرّى مناسبة "المقال" السياسي "للمقام" في الأمة ؟ هل تناول تحليل الأحداث السياسية والاتفاق عليها هو دائما نقطة مفصلية في العمل السياسي، وخطوة أولية كما الوضوء للصلاة، فلا يصح العمل الميداني مع الأمة إلا إذا تم دائما توضيح التحليل أولا ثم العمل ؟ هل يجوز للسياسي المبدئي وهو يعمل في الأمة ويتعامل مع حدث من الأحداث، أن يتجاوز المعلومات المتعلقة بتحليل واقع الحدث وارتباطه، إلى دفع الأمة إلى ما يتوجب عليها القيام به عمليا خشية أن يعيق الاختلاف في تفاصيل التحليل أو أن يحبط معرفة التحليل الأمة عن الاندفاع للعمل المنتج للتغيير؟
هذه أسئلة ومثيلاتها تدور حول فكرة ذات أهمية ميدانية، تبرز لدى انخراط حاملي الدعوة بين الناس من أجل شحنهم باتجاه قضية الأمة المصيرية وقضاياها الحيوية. إذ يلاحظ في بعض الأحيان، أن معلومات التحليل السياسي قد تحدث فجوة في التفاعل بين الأمة وحاملي الدعوة، بعضها لأسباب عاطفية وبعضها لأسباب تتعلق بالانتماءات والولاء، فتضيع على الأمة فرص الالتحام والتوحد بين العاملين المخلصين فيها على الموقف الشرعي العملي الذي لا يرتبط أحيانا بالتحليل السياسي، بقدر ما يرتبط بالفكر السياسي الذي ينبع من المبدأ، وفي حالات لا يكون تناول التحليل السياسي فيها خادما للقضية موضوع الحدث.
وهنا أود التركيز على مثال عملي حي تعيشه الأمة يوميا من خلال التفاعل مع التيارات التي تبنت العمل المادي وجعلت الصراع مع المحتلين، صليبيين كانوا أم يهود محل تركيزها الأول، ونقطة أولية في العمل لتحقيق غايات الأمة، بحيث قد يجد البعض أنفسهم مندفعين إلى بحث العلاقات التي تربط بعض هذه الجماعات بالأنظمة الحاكمة كسوريا وإيران، والدعم الذي تجده عند بعضها، من باب المكاشفة وتبيان الأمور للأمة، واعتبار ذلك موضوعا رئيسيا في التعقيب على كل حدث يرتبط بهذه الحركات فيتم مثلا تناول موضوع تسلح جماعة من خلال توافق مصالح أو غيره مع نظام من الأنظمة في البلاد الإسلامية كنقطة جوهرية في العمل مع الأمة وفي التفاعل مع مجريات الأحداث المادية والصراع مع المحتل، بحيث لا تذكر الأعمال التي ترتبط بصراع إحدى هذه الحركات مع المحتلين ولا يذكر إنجاز عملي لها إلا وتوجب ذكر مثل تلك العلاقة وتحليلها وما إلى ذلك من قضايا التحليل السياسي. هذا هو جوهر المسألة من الناحية الميدانية، وفي التفاعل مع الأحداث اليومية التي تعيشها وفي شحنها من خلال تلك الأحداث نحو تحقيق قضيتها المصيرية.
إن المتتبع لكيفية تفاعل الواعين من الأمة وما يصدر عنهم في هذا الإطار، يجد أن الأمر واضح، والأمثلة على ذلك كثيرة، ولنتأمل بعضها: • كيف تم التفاعل مع موضوع انسحاب "إسرائيل" من الجنوب اللبناني ؟ هل تم تناول موضوع علاقة حزب الله مع سوريا وإيران بالتحليل والتفصيل، لدى التعقيب على الحدث، أم جعل من الحدث مثال على قدرة الأمة على دحر الاحتلال وما يتوجب عليها فعله ؟ • كيف تم التفاعل مع حشد أمريكا لضرب العراق ؟ هل تم التنحي جانبا عن التعليق على الصراع كونه يرتبط بحاكم يطبق نظام كفر، ولذلك فلا يصح شحن الأمة للدفاع عن العراق ؟ أم أن موضوع المؤامرة السياسية وعمالة النظام وكفره، لم تكن بأي حال من الأحوال هي الحديث الجوهري في التعاطي مع الموضوع، وإنما انصب المقال السياسي على وجوب دفع العدوان عن أرض المسلمين والحفاظ على وحدة الأمة ؟ • كيف تم التفاعل مع حدث استشهاد الشيخ أحمد ياسين؟ هل تم تناول بعض المواقف السياسية وتحليل ارتباطاتها ؟ أم تم صب الغضب وشحن الأمة لما يتوجب عليها القيام به إزاء الهجمة الأمريكية والصهيونية على الأمة.
هذه ثلاثة أمثلة، وغيرها الكثير الكثير الذي يوضح بجلاء أن على المسلم الواعي المخلص أن يتحرّى التفاعل السياسي المنتج مع الأمة لا أن يتحول إلى محلل سياسي "متفرج" على الأحداث، وهذا بالطبع لا يعني أن يتجاوز عن المخالفات المبدئية إن وجدت. وهو أيضا لا يعني عدم القيام بالتحليل السياسي، بل لا بد دائما من كشف المؤامرات التي تحاك للأمة، ولكن العدوان على الأمة قد بات من شدة الوضوح بحيث قل التضليل في الأحداث، وأصبح الصراع على المكشوف، وهو يتطلب الفعل والتفاعل الإيجابي المنتج أكثر مما يتطلب التحليل. منقول | |
|